كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقال في الجواب عنه توبة من اللّه: أي عدم المؤاخذة في ترك التحفظ والتصون، مع إمكان عده من حملة الذنوب.
ثم قال تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ}، فإنها في الآية إيجاب الدية مطلقا، وليس فيه إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة، ولا شك أن إيجاب المساواة على العاقلة خلاف قياس الأصول من الغرامات وضمان المتلفات، والذي أوجب على العاقلة، لم يجب تغليظا، ولا أن وزر القاتل عليهم، ولكنه مواساة محضة.
واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة لازمة، وإنما هي إلى اختيار من في الديوان، وأما الناشئ من القرابة فيه لازم لا يزول، وما كل نصرة تعتبر، فإن الزوج ينصر زوجته ولا يتحمل عقلها، والمؤمنون ينصر بعضهم بعضا، والأصل عدم التحمل إلا حيث أثبت التحمل، وقد أثبت التحمل في نصرة الأقارب، فلا يجوز طرح وصف القرابة وإلغاؤها.
ثم اعلم أن اللّه تبارك وتعالى، أطلق الدية ولم يبين مقدارها، فلا نعلم مقدارها إلا من حيث بيان آخر، ولا يفهم من إيجاب أصل الدية إبانة التفاوت بين العمد والخطأ وشبه العمد، ولا بين الكافر والمسلم، ولا أصل المساواة، وإنما المساواة والتفاوت صفات وكيفيات، تعلم من بيان آخر، ولا نعلم منه التسوية بين الحر وغيره في مقدار الدية ولا التفاوت، فهذا بين يعرف بمبادئ النظر.
وقد غلط الرازي فيه من وجوه عدة، وعثر عثرات متتابعة، وظن أن اللّه تبارك وتعالى لما ذكر في قتل المعاهد: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ} أن المراد به مثل دية المسلم في المقدار، ولم يعلم أن هذا الكلام لا تعلق له بالمقدار، فإنه لو اقتصر على ذكر دية المسلم، لم يفهم منه المقدار، وضم مثله إليه في المعاهد، كيف يكون بيانا للمقدار؟ وإذا قال القائل: من أتلف دما فعليه ضمانة، ومن أتلف ثوبا فعليه ضمانه، ومن أتلف بهيمة فعليه ضمانها، لا يفهم منه المساواة في المقدار ولا التفاوت، وإنما ذلك معلوم من بيان آخر، وهذا لا ريب فيه.
نعم ذكر اللّه تعالى تحرير الرقبة في ثلاثة مواضع، ولم يذكر الدية في قوله: {فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، فاحتمل أن يقال الدية تجب وتكون لبيت المال، ولكن اللّه تعالى إنما ذكر في الموضعين الدية المسلمة إلى أهله، فإذا لم يكن له وارث مسلم ولكنه مسلم، فإذا قتل فلا دية لأهله، فلم يذكر الدية لأهله لذلك.
وذكر ذاكرون تأويلا آخر فقالوا قوله: {فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}.
إنما كان في صلح النبي صلّى اللّه عليه وسلم أهل مكة، لأنه من لم يهاجر لم يورث لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا}.
فلم يكن لمن لم يهاجر ورثة من المسلمين يستحقون ميراثه، فلم تجب الدية ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ}.
والشافعي رضي اللّه عنه يقول: إذا قتل مسلما في دار الحرب في الغارة والحرب، أو في دار السلام إلا أنه في الحرب والغارة، فعليه كفارة ولا دية في ظاهر المذهب.
ولا شك أن ذلك بعيد عن قياس الأصول، لأن الجهل بصفة الشيء لا يسقط ضمانه إذا كان مضمونا، ومن أجله صار صائرون إلى وجوب الضمان، وذكروا أن السكوت عن ذكر الضمان لا يسقط الضمان، فإن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً}، يتناول كل مؤمن، لبيان أنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله، فإن أهله كفار، فأراد أن يتبين به أن أهله لا يستحقون من ديته شيئا، وأنه ليس لأهله أن يصدقوا، فإنه لا حق لهم في ديته.
وهذا بين ليكون جمعا بين دلالة السكوت ودلالة العموم.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها}.
ظن أصحاب أبي حنيفة، أن اللّه تعالى نص على حكم الخطأ، وأوجب التحرير فيه في ثلاثة مواضع، ثم قال من بعدها من غير فصل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ}، فإيجاب الكفارة فيها خلاف الظاهر.
والجواب عنه: أن اللّه تعالى ذكر في الخطأ تمام ما أوجب فيه، ثم أبان للعمد مزية على الخطأ وذكر تلك المزية، وذلك لا ينفي إيجاب ما وجب في الخطأ، كما لا ينفي إيجاب الدية وإن وجبت في الخطأ، وإنما أوجب اللّه تعالى الكفارة في الخطأ، تعظيما لأمر الدم في مقابلته بالكفارة، وشرع في العمد مزية، فلا ينبغي أن تكون المزية مسقطة ما قد وجب في الخطأ، ولذلك قال الشافعي رضي اللّه عنه: إذا وجبت الكفارة في الخطأ، فلأن تجب في العمد أولى.
وقال إذا شرع السجود في السهو، فلأن يشرع في العمد أولى.
وقد قال تعالى في الخطأ: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}. معناه أنه إنما أوجبه اللّه عليكم ليتقبل اللّه توبتكم فيما أنتم منسوبون به إلى التقصير.
وقيل: معنى التوبة التوسعة، وهي توسعة من اللّه ورحمة، كما قال: {فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ}.
وقال تعالى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ}:
أي وسع اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار وخفف عنهم: فهذا تمام البيان في هذه الآية.
قول اللّه تعالى: {فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ}: ومعلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان، فالحيض لا يقطع التتابع في صوم الشهرين، وليس إذا انقطع التتابع لمدى لا يمكن الاحتراز عنه ما دل على أنه ينقطع، لما لا يمكن الاحتراز منه.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} الآية [94].
روي أن سبب نزول الآية، أن سرية للنبي صلّى اللّه عليه وسلم، لقيت رجلا ومعه غنيمات له، فقال: السلام عليكم، لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، فقتله رجل من القوم، فلما رجعوا أخبروا النبي صلّى اللّه عليه وسلم بذلك فقال:
لم قتلته وقد أسلم؟
فقال: إنما قالها متعوذا.
فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وحمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليهم غنيماته.
وهذا مما يحتج في قبول توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام، لأن اللّه تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام.
ومقتضى الطلاق، أن من قال لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، أو قال إني مسلم، يحكم له بحكم الإسلام، لأن قوله تعالى: {لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، إنما معناه لمن استسلم، فأظهر الانقياد لما دعى إليه من الإسلام، فإذا قرئ السلام وهو إظهار تحية الإسلام، فلا جرم قال علماؤنا:
إنما نحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي سائر اعتقاده، فإذا قال اليهودي أو النصراني، أنا مسلم لم يصر مسلما، لأنهم كلهم يقولون نحن مسلمون، فهو كما قال أنا على الدين الحق.
نعم، المشركون قالوا: لا نقول نحن مسلمون، فحالهم في هذا خلاف حال اليهود والنصارى، وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا مني؟؟؟ دماءهم وأموالهم إلا بحقها».
وإنما عنى به المشركين، لأن اليهود والنصارى يطلقون قول لا إله إلا اللّه ولا يتمانعون منه، وإن لزمهم الشرك في التفصيل فقول: لا إله إلا اللّه، إنما كان على إسلام مشركي العرب، لأنهم كانوا لا يعترفون به إلا استجابة لدعوة النبي صلّى اللّه عليه وسلم، وقد بين اللّه تعالى ذلك فقال: {إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ}.
واليهود والنصارى يوافقون على إطلاق هذه الكلمة، وإنما يخالفون في نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم، فمتى أظهر مظهر منهم الإيمان بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم، فهو مسلم، حتى قال قائلون من أصحابنا: وإن هو قال محمد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلا يحكم بإسلامه، لإمكان أن يكون من العيسوية، حتى يقول محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى الكافة.
وقال قائلون: ولا بذلك أيضا يصير مسلما، لأن فيهم من يقول محمد رسول اللّه إلى كافة الناس، ولكنه سيبعث وما بعث بعد.
وإذا تبين ذلك، فما لم يقل أنا بريء من اليهودية والنصرانية، لا يصير مسلما.
ومن أجل هذه الاعتبارات والشرائط، صار من صار إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، لأنا لم نعرف في حقه علما يظهر به مخالفة مقتضى اعتقاده، لأن دينه الذي يعتقده أن يدخل مع كل قوم فيما يهوونه، وأن كل دين على اختلاف الأديان كلها ينجر باطنه إلى المخازي التي يعتقدونها، فلم يظهر لنا منه ما يخالف مقتضى اعتقاده، فكان كاليهودي إذا قال لا إله إلا اللّه.
وهذا دقيق حسن، وقد شرحنا هذه المسألة من الأصول ومسائل الخلاف.
واعلم أن في الآية إشكالا، من حيث إن اللّه تعالى قال: {إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}. الآية [94].
وذلك يمنع جزم الحكم بإسلامه، والتشكك من أمره، من غير أن يحكم له بالكفر ولا الإيمان، كالذي يخبر بالخبر ولا يعلم صدقه من كذبه، فلا يجوز لنا تكذيبه، وليس ترك تكذيبه مما يقتضي تصديقه، كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية: ليس فيه إثبات الإيمان ولا الكفر إنما فيه الأمر بالتثبت حتى يتبين حاله، إلا أن الآثار التي ذكرناها قد أوجبت الحكم بإسلامه، فإنه عليه السلام قال: أقتلت مسلما؟ أو قتلته بعد ما أسلم.
وفيه أيضا سرّ آخر، وهو أنا ربما نقول إنا لا نعلم إسلامه الذي هو إسلام حقيقة عند اللّه تعالى، وربما غلب على ظننا كذبه، ولكن تجرى عليه أحكام الإسلام.
قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الآية [95].
يدل على أن كثرة الجزاء على قدر شرف العمل، وأن الذي لا يجاهد لا يثاب ثواب المجاهدين، إلا أن يعلم اللّه تعالى من نيته أنه لو كان الجهاد لجاهد، فإنه يستحق الأجر على قدر نيته، لقوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}.
وفيه رد على المعتزلة، لأنهم يمنعون التسوية بين أولي الضرر والمجاهد على فاسد أصولهم، ونص القرآن يبطل قولهم.
قوله تعالى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [101].
فأباح القصر بشرطين: الضرب في الأرض، والخوف.
وظن ظانون أن المراد بالقصر ها هنا، القصر في صفة الصلاة، بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وترك القيام إلى الركوب.
والرازي اختار هذا وقال: الذي حمله على أن القصر عزيمة عندهم، وأن فريضة الصلاة في حق المسافر ما نزلت إلا ركعتين فلا قصر، ولا يقال في العزيمة لا جناح، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك، فلا جرم اختار الأول.
واحتج عليه بأن اللّه تعالى قيد القصر بشرطين، والذي يعتبر فيه الشرطان إنما هو صلاة الخوف.
والذي ذكره فاسد من وجهين:
أحدهما: أن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان، فإنه لو لم يضرب في الأرض، ولم يوجد السفر، بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا، فتجوز صلاة الخوف، فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله.
فإن حملنا على قصر الصفة، لم يشترط فيه الضرب في الأرض.
وإن حملنا على قصر الركعات، لم يعتبر فيه الخوف، فسقط ترجيحه أحد الحملين على الآخر، باعتبار الشرطين فيه.
الثاني: أن في الأخبار ما يدل على أن المراد بكتاب اللّه تعالى ما قلناه، وهو ما روي عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: كيف نقصر وقد أمنّا؟ وقال اللّه تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} الآية، فقال: عجبت مما عجبت، فسألت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال: «صدقه تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته».